فصل: تفسير الآيات (49- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (49- 51):

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)}
{تِلْكَ} إشارة إلى قصة نوح عليه السلام ومحلها الرفع على الابتداء والجمل بعدها وهي {مِنْ أَنْبَاء الغيب نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ} أخبار أي تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك مجهولة عندك وعند قومك {مّن قَبْلِ هذا} الوقت أو من قبل إيحائي إليك وإخبارك بها {فاصبر} على تبليغ الرسالة وأذى قومك كما صبر نوح، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما كان لنوح وقومه {إِنَّ العاقبة} في الفوز والنصر والغلبة {لّلْمُتَّقِينَ} عن الشرك.
{وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ} واحداً منهم، وانتصابه للعطف على {أرسلنا نوحاً} أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم {هُودًا} عطف بيان {قَالَ يَا قََوْم اعبدوا الله} وحدوه {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} بالرفع: نافع صفة على محل الجار والمجرور، وبالجر: عليّ على اللفظ {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء {ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الذي فَطَرَنِى} ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول لأن شأنهم النصيحة والنصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إذ تردون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك.

.تفسير الآيات (52- 54):

{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)}
{ويَا قَوْمِ استغفروا رَبَّكُمْ} آمنوا به {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} من عبادة غيره {يُرْسِلِ السماء} أي المطر {عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} حال أي كثير الدرر {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} إنما قصد استمالتهم إلى الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين فكانوا أحوج شيء إلى الماء. وكانوا مدلين بما أوتوا من شدة البطش والقوة. وقيل: أراد القوة بالمال أو على النكاح. وقيل حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم فوعدهم هود عليه السلام المطر والأولاد على الإيمان والاستغفار. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج قال له بعض حجابه: إني رجل ذو مال ولا يولد لي علمني شيئاً لعل الله يرزقني ولدا. فقال الحسن: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة، فولد له عشرة بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته مم قال ذلك؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} وقول نوح: {ويمددكم بأموال وبنين} [نوح: 12] {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} ولا تعرضوا عني وعما أدعو إليه {مُّجْرِمِينَ} مصرين على إجرامكم وآثامكم.
{قَالُواْ يَا هُودٍ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ} كذب منهم وجحود كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} [الرعد: 27] مع فوت آياته الحصر {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} هو حال من من الضمير في {تاركي آلهتنا} كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه أقناطاً له من الإجابة {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} {إن} حرف نفي فنفى جميع القول إلا قولاً واحداً وهو قولهم {اعتراك} أصابك {بعض آلهتنا بسوء} بجنون وخبل وتقدير ما نقول قولًا إل هذه المقالة أي قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء {قَالَ إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنّى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ}

.تفسير الآيات (55- 57):

{مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)}
أي من إشراككم آلهة من دونه، والمعنى إني أشهد الله أني برئ مما تشركون واشهدوا أنتم أيضاً إني برئ من ذلك. وجئ به على لفظ الأمر بالشهادة كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه: أشهد على أني لا أحبك تهكما به واستهانة بحاله {فَكِيدُونِى جَمِيعًا} أنتم وآلهتكم {ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} لا تمهلون فإني لا أبالي بكم وبكيدكم ولا أخاف معرتكم وإن تعاونتم علي، وكيف تضرني آلهتكم وما هي إلا جماد لا يضر ولا ينفع؟ وكيف تنتقم مني إذا نلت منها وصددت عن عبادتها بأن تخبلني وتذهب بعقلي؟ {إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي مالكها، ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، ومن كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه والأخذ بالناصية تمثيل لذلك {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} إن ربي على الحق لا يعدل عنه، أو إن ربي يدل على صراط مستقيم {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} هو في موضع فقد ثبتت الحجة عليكم {وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ} كلام مستأنف أي ويهلككم الله ويجئ بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم {وَلاَ تَضُرُّونَهُ} بتوليكم {شَيْئاً} من ضرر قط إذ لا يجوز علي المضار وإنما تضرون أنفسكم {إِنَّ رَبّى على كُلّ شَئ حَفِيظٌ} رقيب عليه مهيمن فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم، أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت الأشياء مفتقرة إلى حفظه عن المضار لم يضر مثله مثلكم.

.تفسير الآيات (58- 61):

{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)}
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} وكانوا أربعة آلاف {بِرَحْمَةٍ مّنَّا} أي بفضل منا لا بعملهم أو بالإيمان الذي أنعمنا عليهم {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وتكرار {نجينا} للتأكيد أو الثانية من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه {تِلْكَ عَادٌ} إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال: {جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله لا نفرق بين أحد من رسله {واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} يريد رؤساءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل لأنهم الذين يجبرون الناس على الأمور ويعاندون ربهم ومعنى اتباع أمرهم طاعتهم {وَأُتْبِعُواْ في هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة} لما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ} تكرار {ألا} مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم تهويل لأمرهم وبعث على الاعتبار، بهم والحذر من مثل حالهم، والدعاء ب {بعدا} ً بعد هلاكهم وهو دعاء بالهلاك للدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له {قَوْمِ هُودٍ} عطف بيان {لعاد} وفيه فائدة لأن عادا عادان: الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم، والأخرى إرم.
{وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَالَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض} لم ينشئكم منها إلا هو وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب ثم خلقهم من آدم {واستعمركم فِيهَا} وجعلكم عمارها وأراد منكم عمارتها، أو استعمركم من العمر أي أطال أعماركم فيها وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما فيهم من الظلم فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم، فأوحى الله إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي {فاستغفروه} فاسألوا مغفرته بالإيمان {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ} داني الرحمة {مُّجِيبٌ} لمن دعاه.

.تفسير الآيات (62- 65):

{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}
{قَالُواْ يَا صالح قَدْ كُنتَ فِينَا} فيما بيننا {مَرْجُوّا قَبْلَ هذا} للسيادة والمشاورة في الأمور أو كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} حكاية حال ماضية {وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} من التوحيد {مُرِيبٍ} موقع في الريبة من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة {قَالَ ياقوم أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةً مّن رَّبّى وءاتانى مِنْهُ رَحْمَةً} نبوة، أتى بحرف الشك مع أنه على يقين أنه على بينة لأن خطابه للجاحدين فكأنه قال قدروا أني على بينة من ربي، وأنني نبي على الحقيقة وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} فمن يمنعني من عذاب الله {إِنْ عَصَيْتُهُ} في تبليغ رسالته ومنعكم عن عبادة الأوثان {فَمَا تَزِيدُونَنِى} بقولكم: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} بنسبتكم إياي إلى الخسار أو بنسبتي إياكم إلى الخسران.
{ياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً} نصب على الحال قد عمل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل و{لكم} متعلق {بآية} حالاً منها متقدمة، لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها فلما تقدمت انتصبت على الحال {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} أي ليس عليكم رزقها مع أن لكم نفعها {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} عقر أو نحر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} عاجل {فَعَقَرُوهَا} يوم الأربعاء {فَقَالَ} صالح {تَمَتَّعُواْ} استمتعوا بالعيش {فِى دَارِكُمْ} في بلدكم وتسمى البلاد الديار لأنه يدار فيها أي يتصرف أو في دار الدنيا {ثلاثة أَيَّامٍ} ثم تهلكون فهلكوا يوم السبت {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي غير مكذوب فيه فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به، أو وعد غير كذب على أن المكذوب مصدر كالمعقول.

.تفسير الآيات (66- 68):

{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}
***{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} بالعذاب أو عذابنا {نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} قال الشيخ رحمه الله: هذا يدل على أن من نجى إنما نجى برحمة الله تعالى لا بعمله كما قال عليه السلام: «لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله» {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ} بإضافة الخزي إلى اليوم وانجرار اليوم بالإضافة. وبفتحها مدني وعلي، لأنه مضاف إلى {إذ} وهو مبني، وظروف الزمان إذا أضيفت إلى الأسماء المبهمة والأفعال الماضية بنيت واكتسبت البناء من المضاف إليه كقوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا
والواو للعطف وتقديره: ونجيناهم من خزي يومئذ أي من ذله وفضيحته، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه. وجاز أن يريد ب {يومئذ} يوم القيامة كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوى} القادر على تنجية أوليائه {العزيز} الغالب بإهلاك أعدائه {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} أي صيحة جبريل عليه السلام {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ} منازلهم {جاثمين} ميتين {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} لم يقيموا فيها {ألا إن ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} {ثمودَ} حمزة وحفص {أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ} {لِثَمُودٍ} علي: فالصرف للذهاب إلى الحي أو الأب الأكبر، ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة.

.تفسير الآيات (69- 72):

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)}
{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا} جبريل وميكائيل وإسرافيل أو جبريل مع أحد عشر ملكاً {إبراهيم بالبشرى} هي البشارة بالولد أو بهلاك قوم لوط والأول أظهر {قَالُواْ سَلاَماً} سلمنا عليك سلاماً {قَالَ سلام} أمركم سلام {سِلم} حمزة وعلي بمعنى السلام {فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ} فما لبث في المجيء به بل عجل فيه، أو فما لبث مجيئه، والعجل ولد البقرة: وكان مال إبراهيم البقر {حَنِيئذٍ} مشوي بالحجارة المحماة {فَلَمَّا رَءا أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} نكر وأنكر بمعنى وكانت عادتهم أنه إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه. والظاهرة أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه دليله قوله {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي أضمر منم خوفاً {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} بالعذاب، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا، وإنما قالوا {لا تخف} لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه {وامرأته قَائِمَةٌ} وراء الستر تسمع تحاورهم أو على رؤوسهم تخدمهم {فَضَحِكَتْ} سروراً بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الخبائث، أو من غفلة قوم لوط مع قرب العذاب، أو فحاضت {فبشرناها بإسحاق} وخصت بالبشارة لأن النساء أعظم سروراً بالولد من الرجال، ولأنه لم يكن لها ولد وكان لإبراهيم ولد وهو إسماعيل {وَمِن وَرَاء إسحاق} ومن بعده {يَعْقُوبَ} بالنصب: شامي وحمزة وحفص، بفعل مضمر دل عليه فبشرناها أي فبشرناها بإسحاق ووهبنا لها يعقوب من وراء إسحاق. وبالرفع: غيرهم على الابتداء والظرف قبله خبر كما تقول (في الدار زيد).
{قَالَتْ ياويلتاى} الألف مبدلة من ياء الإضافة وقرأ الحسن يا ويلتي بالياء على الأصل {ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} ابنة تسعين سنة {وهذا بَعْلِى شَيْخًا} ابن مائة وعشرين سنة، {هذا} مبتدأ و{بعلي} خبره و{شيخا} ً حال، والعامل معنى الإشارة التي دلت عليه ذا أو معنى التنبيه الذي دل عليه {هذا} {إِنَّ هذا لَشَئ عَجِيبٌ} أن يولد ولد من هرمين وهو استبعاد من حيث العادة.

.تفسير الآيات (73- 75):

{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)}
{قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} قدرته وحكمته. وإنما أنكرت الملائكة تعجبها لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب وإلى ذلك أشارت الملائكة حيث قالوا {رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت} أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة فليست بمكان عجيب، وهو كلام مستأنف علل به إنكار التعجب كأنه قيل: إياك والتعجب لأن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل: الرحمة: النبوة، والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم وأهل البيت نصب على النداء أو على الاختصاص {إِنَّهُ حَمِيدٌ} محمود بتعجيل النعم {مَّجِيدٌ} ظاهر الكرم بتأجيل النقم.
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع} الفزع وهو ما أوجس من الخيفة حين نكر أضيافه {وَجَاءتْهُ البشرى} بالولد {يجادلنا في قَوْمِ لُوطٍ} أي لما اطمأن قلبه بعد الخوف وملئ سروراً بسبب البشرى فرغ للمجادلة. وجواب {لما} محذوف تقديره أقبل يجادلنا، أو {يجادلنا} جواب {لما} وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال، والمعنى يجادل رسلنا. ومجادلته إياهم أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون مؤمناً أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا حتى بلغ العشرة قالوا: لا قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا فعند ذلك قال: {إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله} العنكبوت: 32) {إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ} غير عجول على كل من أساء إليه أو كثير الاحتمال ممن آذاه، صفوح عمن عصاه {أَوَّاهٌ} كثير التأوه من خوف الله {مُّنِيبٌ} تائب راجع إلى الله، وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة فبين أن ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة كما حمله على الاستغفار لأبيه فقالت الملائكة.